فصل: تفسير الآيات (38- 43):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال أبو السعود في الآيات السابقة:

{فأمّا منْ أُوتِى كتابه بِيمِينِهِ}
تفصيلٌ لأحكامِ العرضِ {فيقول} تبجّحا وابتهاجا. {هاؤُمُ اقرؤا كتابيه} ها اسمٌ لخُذْ وفيهِ ثلاثُ لُغاتٍ أجودُهُنّ هاءِ يا رجلُ وهاءِ يا امرأةُ وهاؤُا يا رجلانِ أو امرأتانِ وهاؤُون يا رجالُ وهاؤُنّ يا نسوةُ. ومفعولُهُ محذوفٌ، و{كتابيه} مفعولُ {اقرؤُوا} لأنّه أقربُ العاملينِ، ولأنّه لو كان مفعول {هاؤُمُ} لقيل اقرؤُه إذِ الأوْلى إضمارُهُ حيثُ أمكن، والهاءُ فيهِ وفي {حسابيه} و{ماليه} و{سلطانيه} للسكت تُثبتُ في الوقفِ وتسقطُ في الوصلِ واستُحبّ إثباتُها لثباتِها في الإمامِ.
{إِنّى ظننتُ أنّى ملاق حِسابِيهْ} أي علمتُ، ولعلّ التعبير عنْهُ بالظنِّ للإشعارِ بأنّهُ لا يقدحُ في الاعتقادِ ما يهجسُ في النفسِ من الخطراتِ التي لا ينفكُّ عنها العلومُ النظريةُ غالبا. {فهُو في عِيشةٍ رّاضِيةٍ} ذاتِ رِضا على النسبةِ بالصيغةِ كما يقال دارعٌ في النسبةِ بالحرفِ أو جُعل لها مجازا وهو لصاحِبِها وذلك لكونِها صافية عن الشوائبِ دائمة مقرونة بالتعظيمِ. {فِى جنّةٍ عالِيةٍ} مرتفعةِ المكانِ لأنّها في السماءِ أو الدرجاتِ أو الأبنيةِ والأشجارِ {قُطُوفُها} جمعُ قِطْفٍ وهُو ما يُجتنى بسرعةٍ والقطْفُ بالفتحِ مصدرٌ. {دانِيةٌ} يتناولُها القاعدُ. {كُلُواْ واشربوا} بإضمارِ القول، والجمعُ باعتبارِ المعْنى {هنِيئا} أكلا وشربا هنيئا أو هنئتُم هنيئا. {بِما أسْلفْتُمْ} بمقابلةِ ما قدّمتُم من الأعمالِ الصالحةِ {فِى الأيام الخالية} أي الماضيةِ في الدُّنيا، وعن مجاهدٍ أيامُ الصيامِ. ورُوِي يقول الله تعالى: «يا أوليائِي طالما نظرتُ إليكُم في الدُّنيا وقد قلصتْ شفاهُكُم عن الأشربةِ وغارتْ أعينُكُم وخمُصتْ بطونُكُم فكونُوا اليوم في نعيمِكُم وكُلُوا واشربُوا». {وأمّا منْ أُوتِى كتابه بِشِمالِهِ} ورأى ما فيهِ من قبائحِ الأعمالِ {فيقول ياليتنى لمْ أُوت كتابيه ولمْ أدْرِ ما حِسابِيهْ} لما شاهد من سُوءِ العاقبةِ {ياليتها} يا ليت الموتة التي مِتُّها {كانتِ القاضية} أي القاطعة لأمرِي ولم أُبعثْ بعدها، ولم ألق ما ألقى فضميرُ ليتِها للموتةِ، ويجوزُ أن يكون لِما شاهدهُ من الحالةِ أي يا ليت هذه الحالة كانتِ الموتة التي قضتْ عليّ لما أنّهُ وجدها أمرّ من الموت فتمنّاهُ عندها وقد جُوِّز أن يكون للحياةِ الدُّنيا أيْ يا ليت الحياة الدُّنيا كانتِ الموتة ولم أُخلقْ حيا.
{ما أغنى عنّى مالِيهْ} ما لي من المالِ والأتباعِ على أنّ ما نافيةٌ والمفعولُ محذوفٌ أو استفهاميةٌ للإنكارِ أيْ أيُّ شيءٍ أغْنى عنِّي ما كان لي من اليسارِ. {هلك عنّى سلطانيه} أي مُلكِي وتسلُّطِي على الناسِ أو حُجتي التي كنتُ أحتجُّ بها في الدُّنيا أو تسلطي على القُوى والآلاتِ فعجزتُ عن استعمالِها في العِباداتِ.
{خُذُوهُ} حكايةٌ لما يقولهُ الله تعالى يومئذٍ لخزنةِ النارِ {فغُلُّوهُ} أي شُدوه بالأغلالِ {ثُمّ الجحيم صلُّوهُ} أي لا تُصلُّوه إلا الجحيم وهي النارُ العظيمةُ ليكون الجزاءُ على وفقِ المعصيةِ حيثُ كان يتعاظمُ على الناسِ {ثُمّ في سِلْسِلةٍ ذرْعُها} أي طولُها {سبْعُون ذِراعا فاْسْلُكُوهُ} فأدخلُوه فيها بأنْ تلفّوها على جسدِهِ فهو فيما بينها مرهقٌ لا يستطيعُ حراكا ما وتقديمُ السلسلةِ كتقديمِ الجحيمِ للدلالةِ على الاختصاصِ والاهتمامِ بذكرِ ألوانِ ما يعذبُ بهِ وثمّ لتفاوتِ ما بين الغُلِّ والتصليةِ وما بينهُما وبين السلكِ في السلسلةِ في الشدّةِ. {إِنّهُ كان لا يُؤْمِنُ بالله العظيم} تعليلٌ بطريقِ الاستئنافِ التحقيقيِّ ووصفُه تعالى بالعِظمِ للإيذانِ بأنّه المُستحقُّ للعظمةِ فحسبُ، فمنْ نسبها إلى نفسِهِ استحقّ أعظم العُقوباتِ {ولا يحُضُّ على طعامِ المسكين} ولا يحثُّ على بذلِ طعامِهِ أوْ على إطعامِهِ فضلا أنْ يبذل مِن مالِهِ، وقيل ذُكِر الحضُّ للتنبيهِ على أنّ تارك الحضِّ بهذهِ المنزلةِ فما ظنُّك بتاركِ الفعلِ، وفيهِ دلالةٌ على أنّ الكفار مخاطبون بالفروعِ في حقِّ المُؤاخذةِ. قالوا تخصيصُ الأمرينِ بالذكرِ لما أنّ أقبح العقائدِ الكفرُ وأشنع الرذائلِ البخلُ وقسوةُ القلبِ. {فليْس لهُ اليوم هاهنا حمِيمٌ} أي قريبٌ يحميهِ ويدفعُ عنْهُ ويحزنُ عليهِ لأنّ أولياءهُ يتحامونهُ ويُفرُّون منْهُ {ولا طعامٌ إِلاّ مِنْ غِسْلِينٍ} أي من غُسالةِ أهلِ النارِ وصديدِهِم فِعلين من الغُسْلِ.
{لاّ يأْكُلُهُ إِلاّ الخاطئون} أصحابُ الخطايا، منْ خطِئ الرِجلُ إذا تعمّد الذنب لا من الخطإِ المقابلِ للصوابِ دون المقابلِ للعمدِ، عن ابنِ عبّاسٍ رضي الله عنهُما أنّهم المشركون وقرئ {الخاطِيُون} بإبدالِ الهمزةِ ياء وقرئ بطرحِها وقدْ جُوِّز أنْ يراد بهِم الذين يتخطّون الحقّ إلى الباطلِ ويتعدّون حدود الله. اهـ.

.فوائد لغوية وإعرابية:

قال مجد الدين الفيروزابادي:
بصيرة في هلك:
يقال: هلك يهْلِكُ كضرب يضْرِبُ، وهلك يهْلكُ كجعل يجْعل هلاكا، وهُلُوكا وهُلكا بضمّها، ومهْلكا ومهْلِكا، وتُهْلوكا، وتهْلُكة: مات.
وأهْلكهُ، وهلّكهُ، واسْتهْلكه، وهلكهُ أيضا لازِمٌ ومُتعدّ، فهو هالِكٌ، والجمعُ: هلْكى وهُلّكٌ، وهُلاّكٌ، وهوالِكُ شاذٌّ.
والهلْكاءُ، والهلكة: الهلاكُ.
والهلاك على ثلاثة أوجه:
افْتِقادُ الشيءِ عنك وهو عند غيْرِك موجودٌ، كقوله تعالى: {هّلك عنِّي سُلْطانِيهْ}.
الثانى: هلاكٌ باستحالة وفساد، كقوله تعالى: {ويُهْلِك الْحرْث والنّسْل}.
الثالث: الموْتُ، نحو قوله تعالى: {إِن امْرُؤٌ هلك ليْس لهُ ولدٌ} {وما يُهْلِكُنآ إِلاّ الدّهْرُ}، {حتّى إِذا هلك قُلْتُمْ لن يبْعث اللّهُ مِن بعْدِهِ رسُولا}.
الرّابعُ: بُطلانُ الشيءِ من العالم وعدمُه رأسا، ودلك المسمّى فناء، وقد أشير إِليه بقوله تعالى: {كُلُّ شيْءٍ هالِكٌ إِلاّ وجْههُ}.
ويُقال لِلعذاب والخوْفِ والفقْرِ الهلاكُ، وعلى هذا قوله تعالى: {وإِن يُهْلِكُون إِلاّ أنفُسهُمْ وما يشْعُرُون}، {وكمْ أهْلكْنا قبْلهُمْ مِّن قرْنٍ} {أفتُهْلِكُنا بِما فعل الْمُبْطِلُون}.
وقوله: {فهلْ يُهْلكُ إِلاّ الْقوْمُ الْفاسِقُون}، هو الهلاك الأكبر الذي دلّ عليه النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: «لا شرّ كشرٍّ بعدهُ النّار».
وقرئ: {لِمهْلِكِهِم} ومُهْلكِهم، فمهْلكهم من الهُلْك، ومُهْلكِهم من الإِهْلاك.
والتهْلُكة ما يُؤدّى إِلى الهلاك، قال تعالى: {ولا تُلْقُواْ بِأيْدِيكُمْ إِلى التّهْلُكةِ}.
والمهْلكةُ مثلثة اللام: المفازة.
والهلكُ: السُّنُون الجدْبة، جمع: هلكة بالتحريك.
والهلُوكُ: الفاجِرة المتساقِطة على الرّجال، لأنّها تتهالكُ فى مِشْيتها، أى تتمايل.
والاهْتِلاكُ والإِنْهِلاكُ: رمْىُ الإِنسانِ في تهْلُكه.
والمُهْتلِكُ منْ لاهمّ له الاّ أن يتضيّفهُ الناسُ.
والهُلاّكُ.
الّذين ينْتابُون النّاس لابْتِغاءِ معْروفهم.
ووادى تُهُلِّك بضمّتين وكسر اللام المشدّدة ممنوعا: الباطِلُ. اهـ.

.من لطائف وفوائد المفسرين:

قال الشنقيطي:
سورة الحاقة:
قوله تعالى: {ولا طعامٌ إِلاّ مِنْ غِسْلِينٍ}
ظاهر هذا الحصر أنه لا طعام لأهل النار إلا الغسلين وهو ما يسيل من صديد أهل النار على أصح التفسيرات كأنه فعلين من الغسل لأن الصديد كأنه غسالة قروح أهل النار أعاذنا الله والمسلمين منها.
وقد جاءت آية أخرى تدل على حصر طعامهم في غير الغسلين وهي قوله تعالى: {ليْس لهُمْ طعامٌ إلاّ مِنْ ضرِيعٍ} وهو الشبرق اليابس على أصح التفسيرات ويدل لهذا قوله أبي ذؤيب:
رعى الشبرق الريان حتى إذا ذوى ** وصار ضريعا بان عنه النحائص

والجواب ظاهر وأن الأخير ناسخ للأول والعلم عند الله تعالى.
وللعلماء عن هذا أجوبة كثيرة أحسنها عندي اثنان منها ولذلك اقتصرت عليهما الأول- أن العذاب ألوان والمعذبون طبقات فمنهم من لا طعام له إلا من غسلين ومنهم من لا طعام له إلا من ضريع، ومنهم من لا طعام له إلا الزقوم ويدل لهذا قوله تعالى: {لها سبْعةُ أبْوابٍ لِكُلِّ بابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مقْسُومٌ}.
الثاني- أن المعنى في جميع الآيات أنهم لا طعام لهم أصلا لأن الضريع لا يصدق عليه اسم الطعام ولا تأكله البهائم فأحرى الآدميون، وكذلك الغسلين ليس من الطعام فمن طعامه الضريع لا طعام له ومن طعامه الغسلين كذلك.
ومنه قولهم فلان لا ظل له إلا الشمس ولا دابة له إلا دابة ثوبه يعنون القمل ومرادهم لا ظل له أصلا ولا دابة له أصلا وعليه فلا اشكال والعلم عند الله تعالى.

.تفسير الآيات (38- 43):

قوله تعالى: {فلا أُقْسِمُ بِما تُبْصِرُون (38) وما لا تُبْصِرُون (39) إِنّهُ لقول رسُولٍ كرِيمٍ (40) وما هُو بِقول شاعِرٍ قلِيلا ما تُؤْمِنُون (41) ولا بِقول كاهِنٍ قلِيلا ما تذكّرُون (42) تنْزِيلٌ مِنْ ربِّ الْعالمِين (43)}

.مناسبة الآية لما قبلها:

قال البقاعي:
ولما ذكر سبحانه وتعالى الحاقة التي جعلها دار الحساب للمحسن والمسيء اللذين قسمتهما القدرة واقتضتهما الحكمة، وصوب إليهما القرآن الذي هو ذكر للعالمين بالوعد والوعيد والبشارة والتهديد، ومن المعلوم ببديهة العقل أنه لا يصح أصلا في حكمة أحد أن يترك من تحت يده هملا لاسيما إن كان تقدم إليهم بالأمر والنهي، وأقام الدليل على قدرته عليها بتعذيب من استأصلهم لأجل تكذيب رسله ليكون عذابهم وتنجية المحسنين منهم مثلا محسوسا تشهد فيه الحاقة، لأن من قدر على ذلك كانت له القدرة التامة على كل ممكن، وذكر ما دلت الحكمة عليه من تنعيم الطائع وتعذيب العاصي بما هو أنسب الأشياء لعمل كل منهما في هذه الأساليب المعجزة مفردات وتراكيب ومعاني، فدل ذلك على آخر سورة (ن) عاد إلى تقريره بوجه آخر، وهو أنه لتمام علمه وكمال قدرته لا يقرر من كذب عليه على كذبه فضلا عن أن يؤيده، فقال مسببا عن ذلك حين بلغ الأمر في الوضوح إلى النهاية، ذاكرا ما هو أبلغ من القسم لأن بعض أهل الجدل إذا حجه خصمه يقول: إنما غلبتني بأنك أتقن مني في الجدل بالحق، فإن الحق معي، فيحلف له صاحبه أنه ما غالطه ولا تعمد في جدله إلا الحق، {فلا أقسم} أي لا يقع مني إقسام {بما} أي بمجموع ما {تبصرون} أي لكم أهلية إبصاره من كل ما دخل في عالم الشهادة {وما لا تبصرون} أي ما ليس لكم في هذا الدار أهلية إبصاره، وذلك جميع الموجودات واجبها وجائزها معقولها ومحسوسها، لأن الأمر أوضح من أن يحتاج إلى إقسام وإن كنت أقسم في غير هذا الموضع بما شئت من أفراد هذا المجموع.
ولما أكد غاية التأكيد بما قال من أن الأمر وصل في الوضوح إلى حد لا يحتمل التأكيد، فكان ذلك تأكيدا بعدم التأكيد، استأنف الخبر عما أخبر أنه لا يحتاج إلى إقسام بإثبات أداة التأكيد لأجل إنكارهم ليكون الكلام جامعا بين التأكيد بالنفي وبين التأكيد بالإثبات فقال: {إنه} أي هذا الذي ختمت به سورة (ن) ودل على الساعة بما أتى به من هذه الأساليب التي هي مع كونها حكيمة معجزة {لقول} أي تلاوة {رسول} أي أنا أرسلته وعني أخذه، وليس فيه شيء من تلقاء نفسه إنما هو كله رسالة واضحة جدا، أنا شاهد بها بما له من الإعجاز الذي يشهد أنه كلامي.
ولما كان من شأن الرسول أن لا يبلغ إلا ما أرسله به مرسله، وكان بعض الرسل ربما زاد أو نقص تعمدا أو سهوا، أخبر أن له صلى الله عليه وسلم من الوصف ما يحفظه فقال: {كريم} أي هو في غاية الكرم الذي هو البعد عن مساوي الأخلاق بإظهار معاليها لشرف النفس وشرف الآباء فهو لا يزيد ولا ينقص، وكرم الشيء اجتماع الكمالات اللائقة به فيه.
ولما أثبت أنه قوله سبحانه وتعالى لأنه قول رسوله صلى الله عليه وسلم لنا وهولا ينطق عن الهوى، نفى عنه ما يتقولونه عليه، فبدأ بالشعر وهو ما يقوله الإنسان من تلقاء نفسه على وزن مقصود صدقا كان أو كذبا، ولابد فيه للتقيد بالوزن والقافية من التكلف الذي القرآن بعيد عنه، وهو مع مشاركته للسجع في التكلف الناقص للمعنى أعلى منه بالوزن الذي يكسبه الرونق والحلاوة فقال: {وما هو} أي هذا الذكر في باطن أمره ولا ظاهره، وأكد النفي فقال: {بقول شاعر} أي يأتي بكلام مقفى موزون بقصد الوزن، وإنما قيل أنه ليس بقول من هو كذلك لأنه، لا يوافق الوزن فيه إلا أماكن نادرة بالنسبة إلى مجموع القرآن، ومن المقطوع به أن ذلك لا يرضى به شاعر وهو أنه ينصب نفسه منصب النظم والارتهان بعهدة الوزن، ثم يأتي بكلام أكثره غير موزون، فعلم قطعا أن الذي وافق الوزن فيه غير مقصود فليس بشعر.
ولما كانت مخالفة القرآن للشعر خفية من حيث أنه لا يعرف ذلك إلا الشعراء وهم قليل في الناس، والأغلب لا يعرفون ذلك، ختم الآية بالإيمان الذي هو التصديق بالغيب فقال تعالى: {قليلا ما تؤمنون} أي ما توجدون التصديق الذي هو الإيمان إلا إيجادا أو زمانا قليلا، وذلك لأني قد أخبرتكم بذلك في غير موضع فلم تصدقوا وفيكم شعراء كثير يعرفون معرفة تامة أنه مخالف للشعر، وقد أخبركم بعضهم بذلك كالوليد بن المغير وعتبة ابن ربيعة وغيرهما ثم لا تتبعون ذلك ثمرته، وهو الإيمان بالله ورسوله، وإيمانهم القليل إقرار من أقر من شعرائهم أنه ليس بشعر، وإخلاصهم بالوحدانية عند الاضطرار وإفرادهم الخالق بالخلق والربوبية، وهو إيمان لغوي لا شرعي، ولما كان من يعرف الشعر يعرف النثر فهو أعلى فقدمه، أتبعه النثر فقال: {ولا بقول كاهن} وهو المنجم الذي يخبر عن أشياء يوهمها لرئي يخبره بذلك، وأغلبها ليس لها صحة، وعبارته عن ذلك بالسجع المتكلف المقصود كونه سجعا الذي يكون المعنى فيه تابعا للفظ للتحلية بمشاكلة المقاطع.
ولما كانت مباينة القرآن للسجع خفية جدا لما فيه من الفواصل في الأغلب وتركها في البعث فارق لأن الساجعين لا يرضون أن يأتوا بقرينة لا أخت لها ويعدون ذلك وعيا عيبا رديئا، وكذا تطويل السجعة عن قرينتها وتضعيفها على عديلتها لا يرضى به ساجع ولو أنه هاجع، ومباينة النبي صلى الله عليه وسلم للكهنة ظاهرة جدا، فإن الكاهن من ينصب نفسه للدلال على الضوائع والإخبار بالمغيبات يصدق فيها تارة ويكذب كثيرا، ويأخذ الجعل على ذلك، ويقتصر على من يسأله، فعبر لذلك ب {كاهن} دون (ساجع) أدار أمره على التفكر فقال: {قليلا ما} وأكد أمر القلة والخفاء بإدغام تاء التفعل فقال تعالى: {تذكرون} فلذلك يلتبس عليكم الأمر أو على من تلبسون عليه بذلك، فعلم أن الذي يفرق بينهما موجود فيهم لأنه يرى أن الكتاب تابع للمعنى الصحيح الثابت، فإن صح غاية الصحة مع وجود القرائن المتوافقة في الروي كان وإلا انتقل عن ذلك إلى قرأئن غير متوافقة في روي ولا ما يقاربه، أو قريبة مفردة مع إمكان جعلها كما قبلها لكن مع نقصان المقصور وطول الكلام ونحو ذلك، وأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يدّع يوما من الأيام علم الغيب ولا نصيب نفسه الشريفة لشيء مما الكهان فيه ولا نقل في ساعة من الدهر عن الجن خبرا ذكر أنه استفاده منهم ولا مدحهم لذلك كما تفعل الكهان، بل ذم الفاسقين منهم غاية الذم وقال: إن أكثر ما يأتون به الكذب، ولا سأل جعلا عما يدعو إليه ولا اقتصر على من يأتيه للسؤال، بل هو صلى الله عليه وسلم يتبع الناس في مجامعهم يدعوهم إلى الله بإنقاذهم نم الضلال فمباينته للكهان لا يحتاج إلى غير تذكر قليل- كما أشار إليه إدغام تاء التفعل- فثبت أن القول ليس بكهانة، وقائله والمؤدي له ليس بكاهن، ونسبة القول إلى المبلغ لكونه مبلغا واضحة الصحة.
ولما أثبت أنه قول الرسول الذي لا ينطق عن الهوى، ونفى عنه ما قد يلبس من الشعر والكهانة، ولم يذكر ما كانوا يرمونه به من السحر والأضغاث لأنه عتاد محض لا يرتاب أحد فيه، وكانت السورة مقصودا فيه إثبات الحقائق التي قد تخفى، وصفه بما يحقق ما أريد من نسبته إلى الرسول صلى الله عليه وسلم فقال: {تنزيل} أي على وجه التنجيم وأشار إلى إرساله إلى جميع الخلق من أهل السماوات والأرض بقوله: {من رب العالمين} أي موجدهم ومدبرهم بالإحسان إليهم بما يفهم كل منهم من هذا الذكر الذي رباهم به، ورتب سبحانه نظمه على وجه سهله على كل منهم شيئا يكفي في هدايته البيانية بخلاف الشعر والكهانة فإنه لا يفهمهما إلا قليل من الناس لا جميع العالمين، بل كثير من أكابر العلماء وحذاقهم ربما قرئ على أحد منهم الآن القصيدة من قصائد العرب فلا يفهم المراد منها ولا يتضح له بوجه. اهـ.